سورة السجدة - تفسير تفسير أبي حيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (السجدة)


        


هذه السورة مكية، قيل: إلا خمس آيات: {تتجافى} إلى {تكذبون}. وقال ابن عباس، ومقاتل، والكلبي: إلا ثلاث آيات نزلت بالمدينة: {أفمن كان مؤمناً}. قال كفار قريش: لم يبعث الله محمداً إلينا، وإنما الذي جاء به اختلاق منه، فنزلت. ولما ذكر تعالى، فيما قبلها، دلائل التوحيد من بدء الخلق، وهو الأصل الأول؛ ثم ذكر المعاد والحشر، وهو الأصل الثاني، وختم به السورة، ذكر في بدء هذه السورة الأصل الثالث، وهو تبيين الرسالة.
و {الكتاب}: القرآن. قال الحوفي: {تنزيل} مبتدأ، {ولا ريب} خبره. ويجوز أن يكون {تنزيل} خبر مبتدأ، أي هذا المتلو تنزيل، أو هذه الحروف تنزيل، و{الم} بدل على الحروف. وقال أبو البقاء: {الم} مبتدأ، و{تنزيل} خبره بمعنى المنزل، و{لا ريب فيه} حال من الكتاب، والعامل فيه تنزيل، و{من رب العالمين} متعلق بتنزيل أيضاً. ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في فيه، والعامل فيه الظرف. ويجوز أن يكون {تنزيل} مبتدأ، و{لا ريب فيه} الخبر، و{من رب العالمين} حال كما تقدم. ولا يجوز على هذا أن يتعلق بتنزيل، لأن المصدر قد أخبر عنه. ويجوز أن يكون الخبر {من رب العالمين}، و{لا ريب} حال من الكتاب، وأن يكون خبراً بعد خبر. انتهى. والذي أختاره أن يكون {تنزيل} مبتدأ، و{لا ريب} اعتراض، و{من رب العالمين} الخبر. وقال ابن عطية: {من رب العالمين} متعلق بتنزيل، ففي الكلام تقديم وتأخير؛ ويجوز أن يتعلق بقوله: {لا ريب}، أي لا شك، من جهة الله تعالى، وإن وقع شك الكفرة، فذلك لا يراعى. والريب: الشك، وكذا هو في كل القرآن، إلا قوله: {ريب المنون} انتهى.
وإذا كان {تنزيل} خبر مبتدأ محذوف، وكانت الجملة اعتراضية بين ما افتقر إلى غيره وبينه، لم نقل فيه: إن فيه تقديماً وتأخيراً، بل لو تأخر لم يكن اعتراضاً. وأما كونه متعلقاً بلا ريب، فليس بالجيد، لأن نفي الريب عنه مطلقاً هو المقصود، لأن المعنى: لا مدخل للريب فيه، إن تنزيل الله، لأن موجب نفي الريب عنه موجود فيه، وهو الإعجاز، فهو أبعد شيء من الريب. وقولهم: {افتراه}، كلام جاهل لم يمعن النظر، أو جاحد مستيقن أنه من عند الله، فقال ذلك حسداً، أو حكماً من الله عليه بالضلال. وقال الزمخشري: والضمير في فيه راجع إلى مضمون الجملة، كأنه قيل: لا ريب في ذلك، أي في كونه منزلاً من رب العالمين. ويشهد لوجاهته قوله: {أم يقولون افتراه}، لأن قولهم هذا مفترى إنكار لأن يكون من رب العالمين. وكذلك قوله: {بل هو الحق من ربك}، وما فيه من تقدير أنه من الله، وهذا أسلوب صحيح محكم، أثبت أولاً أن تنزيله من رب العالمين، وأن ذلك ما لا ريب فيه.
ثم أضرب عن ذلك إلى قوله: {أم يقولون افتراه}، لأن أم هي المنقطعة الكائنة بمعنى بل، والهمزة إنكاراً لقولهم وتعجباً منه لظهور أمره في عجز بلغائهم عن مثل ثلاث آيات، ثم أضرب عن الإنكار إلى الإثبات أنه الحق من ربك. انتهى، وهو كلام فيه تكثير. وقال أبو عبيدة: أم يكون معناه: بل يقولون، فهو خروج من حديث إلى حديث؛ ومن ربك في موضع الحال، أي كائناً من عند ربك، وبه متعلق بلتنذر، أو بمحذوف تقديره: أنزله لتنذر. والقوم هنا قريش والعرب، وما نافية، ومن نذير: من زائدة، ونذير فاعل أتاهم.
أخبر تعالى أنه لم يبعث إليهم رسولاً بخصوصيتهم قبل محمد صلى الله عليه وسلم، لا لهم ولا لآبائهم، لكنهم كانوا متعبدين بملة إبراهيم وإسماعيل، وما زالوا على ذلك إلى أن غير ذلك بعض رؤسائهم، وعبدوا الأصنام وعم ذلك، فهم مندرجون تحت قوله: {وإن من أمة إلا خلا فيها نذير} أي شريعته ودينه؛ والنذير ليس مخصوصاً بمن باشر، بل يكون نذيراً لمن باشره، ولغير من باشره بالقرب ممن سبق لها نذير، ولم يباشرهم نذير غير محمد صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عباس، ومقاتل: المعنى لم يأتهم في الفترة بين عيس ومحمد، عليهما السلام.
وقال الزمخشري: {ما أتاهم من نذير من قبلك}، كقوله: {ما أنذر آباؤهم} وذلك أن قريشاً لم يبعث الله إليهم رسولاً قبل محمد صلى الله عليه وسلم. فإن قلت: فإذا لم يأتهم نذير، لم تقم عليهم حجة. قلت: أما قيام الحجة بالشرائع التي لا يدرك علمها إلا بالرسل فلا، وأما قيامها بمعرفة الله وتوحيده وحكمته فنعم، لأن أدلة العقل الموصلة إلى ذلك معهم في كل زمان. انتهى. والذي ذهب إليه غير ما ذهب إليه المفسرون، وذلك أنهم فهموا من قوله: {ما أتاهم}، و{ما أنذر آباؤهم} أن ما نافية، وعندي أن ما موصولة، والمعنى: لتنذر قوماً العقاب الذي أتاهم. {من نذير}: متعلق بأتاهم، أي أتاهم على لسان نذير من قبلك. وكذلك {لتنذر قوماً ما أنذر أباؤهم} أي العقاب الذي أنذره آباؤهم، فما مفعولة في الموضعين، وأنذر يتعدى إلى اثنين. قال تعالى: {فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة} وهذا القول جار على ظواهر القرآن. قال تعالى: {وإن من أمة إلا خلا فيها نذير} و{أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير} {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} {وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً} ولما حكى تعالى عنهم أنهم يقولون: إن محمداً صلى الله عليه وسلم افتراه ورد عليهم، اقتصر في ذكر ما جاء به القرآن على الإنذار، وإن كان قد جاء له وللتبشير ليكون ذلك ردعاً لهم، ولأنه إذا ذكر الإنذار، صار عند العاقل فكر فيما أنذر به، فلعل ذلك الفكر يكون سبباً لهدايته.
و {لعلهم يهتدون}: ترجية من رسول الله، كما كان في قوله: {لعله يتذكر أو يخشى} من موسى وهارون. قال الزمخشري: وأن يستعار لفظ الترجي للإرادة. انتهى. يعني أنه عبر عن الإرادة بلفظ الترجي، ومعناه: إرادة اهتدائهم، وهذه نزغة اعتزالية، لأنه عندهم أن يريد هداية العبد، فلا يقع ما يريد، ويقع ما يريد العبد، تعالى الله عن ذلك. ولما بين تعالى أمر الرسالة، ذكر ما على الرسول من الدعاء إلى التوحيد وإقامة الدليل بذكر مبدأ العالم. وتقدم الكلام على {في ستة أيام} في الأعراف. {ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع}: أي إذا جاوزتموه إلى سواه فاتخذتموه ناصراً وشفيعاً. {أفلا تذكرون} موجد هذا العالم، فتعبدوه وترفضوا ما سواه؟
{يدبر الأمر}، الأمر: واحد الأمور. قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وعكرمة، والضحاك: ينفذ الله قضاءه بجميع ما يشاؤه. {ثم يعرج إليه}: أي يصعد، خبر ذلك {في يوم} من أيام الدنيا، {مقداره}: أن لو سير فيه السير المعروف من البشر {ألف سنة}، لأن ما بين السماء والأرض خمسمائة عام. وقال مجاهد أيضاً: الضمير في مقداره عائد على التدبير، أي كان مقدار التدبير المنقضي في يوم ألف سنة لو دبره البشر. وقال مجاهد أيضاً: يدبر ويلقي إلى الملائكة أمور ألف سنة من عندنا، وهو اليوم عنده، فإذا فرغت ألقى إليهم مثلها. فالمعنى: أن الأمور تنفذ عنه لهذه المدة وتصير إليه آخراً، لأن عاقبة الأمور إليه. وقيل: المعنى يدبره في الدنيا إلى أن تقوم الساعة، فينزل القضاء والقدر، ثم تعرج إليه يوم القيامة، ومقداره ما ذكر ليحكم فيه من ذلك اليوم، حيث ينقطع أمر الأمراء، أو أحكام الحكام، وينفرد بالأمر كل يوم من أيام الآخرة بألف سنة، وهو على الكفار قدر خسمين ألف سنة حسبما في سورة سأل سائل، وتأتي الأقوال فيه إن شاء الله تعالى. وقيل: ينزل الوحي مع جبريل من السماء إلى الأرض، ثم يرجع إلى ما كان من قبول الوحي أو ربه مع جبريل، وذلك في وقت هو في الحقيقة ألف سنة، لأن المسافة مسيرة ألف سنة في الهبوط والصعود، لأن ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة سنة، وهو يوم من أيامكم لسرعة جبريل، لأنه يقطع مسيرة ألف سنة في يوم واحد. قال الزمخشري: وبداية الأمر المأمور به من الطاعات والأعمال الصالحة، ينزله مدبراً من السماء إلى الأرض، ثم لا يعمل به، ولا يصعد إليه ذلك المأمور به خالصاً كما يريده ويرتضيه، إلا في مدة متطاولة، لقلة الأعمال لله والخلوص من عباده، وقلة الأعمال الصاعدة، لأنه لا يوصف بالصعود إلا الخالص، ودل عليه قوله على أثره: {قليلاً ما تشكرون}.
انتهى.
وقيل: يدبر أمر الشمس في طلوعها من المشرق وغروبها في المغرب، ومدارها في العالم من السماء إلى الأرض، لأنها على أهل الأرض تطلع إلى أن تغرب، وترجع إلى موضعها من الطلوع في يوم مقداره في المسافة ألف سنة. والضمير في {إليه} عائد إلى السماء، لأنها تذكر؛ وقيل: إلى الله. وقال عبد الله بن سابط: يدبر أمر الدنيا أربعة: جبريل للرياح والجنود، وميكائيل للقطر والماء، وملك الموت لقبض الأرواح، وإسرافيل لنزول الأمر عليهم. وقيل: العرش موضع التدبير، وما دونه موضع التفصيل، وما دون السموات موضع التعريف. وقال السدي: الأمر: الوحي. وقال مقاتل: القضاء. وقال غيرهما: أمر الدنيا. قال الزجاج: تقول عرجت في السلم أعرج، وعرج الرجل يعرج إذا صار أعرج. وقرأ ابن أبي عبلة: {يعرج} مبنياً للمفعول؛ والجمهور: مبنياً للفاعل. قال أبو عبد الله الرازي: وفي هذا لطيفة، وهو أن الله ذكر في الآية المتقدمة عالم الأجسام والخلق، وأشار إلى عظمة الملك؛ وذكر هنا عالم الأرواح والأمر بقوله: {يدبر الأمر}، والروح من عالم الأمر، كما قال: {قل الروح من أمر ربي} وأشار إلى دوامه بلفظ يوهم الزمان. والمراد دوام النفاد، كما يقال في العرف: طال زمان فلان، والزمان يمتد فيوجد في أزمنة كثيرة. فأشار إلى عظمة الملك بالمكان، وأشار إلى دوامه هنا بالزمان والمكان من خلقه وملكه، والزمان بحكمه وأمره. انتهى. وهو كلام ليس جارياً على فهم العرب. وقرأ الجمهور: {مما تعدون}، بتاء الخطاب. وقرأ السلمي، وابن وثاب، والأعمش، والحسن: بياء الغيبة، بخلاف عن الحسن. وقرأ جناح بن حبيش: ثم تعرج الملائكة، بزيادة الملائكة، ولعله تفسير منه لسقوطه في سواد المصحف.
{ذلك}: أي ذلك الموصوف بالخلق والاستواء والتدبير، {عالم الغيب}: والغيب الآخرة، {والشهادة}: الدنيا، أو الغيب: ما غاب عن المخلوقين، والشهادة: ما شوهد من الأشياء، قولان. وقرأ زيد بن علي: {عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم}: بخفض الأوصاف الثلاثة؛ وأبو زيد النحوي: بخفض {العزيز الرحيم}. وقرأ الجمهور: برفع الثلاثة على أنها أخبار لذلك، أو الأول خبر والاثنان وصفان، ووجه الخفض أن يكون ذلك إشارة إلى الأمر، وهو فاعل بيعرج، أي ثم يعرج إليه ذلك، أي الأمر المدبر، ويكون عالم وما بعده بدلاً من الضمير في إليه. وفي قراءة ابن زيد يكون ذلك عالم مبتدأ وخبر، والعزيز الرحيم بالخفض بدل من الضمير في إليه. وقرأ الجمهور: خلقه، بفتح اللام، فعلاً ماضياً صفة لكل أو لشيء. وقرأ العربيان، وابن كثير: بسكون اللام، والظاهر أنه بدل اشتمال، والمبدل منه كل، أي أحسن خلق كل شيء، فالضمير في خلقه عائد على كل. وقيل: الضمير في خلقه عائد على الله، فيكون انتصابه نصب المصدر المؤكد لمضمون الجملة، كقوله: {صبغة الله} وهو قول سيبويه، أي خلقه خلقاً.
ورجح على بدل الاشتمال بأن فيه إضافة المصدر إلى الفاعل، وهو أكثر من إضافته إلى المفعول، وبأنه أبلغ في الامتنان، لأنه إذا قال: {أحسن كل شيء}، كأن أبلغ من: أحسن خلق كل شيء، لأنه قد يحسن الخلق، وهو المجاز له، ولا يكون الشيء في نفسه حسناً. فإذا قال: {أحسن كل شيء}، اقتضى أن كل شيء خلقه حسن، بمعنى: أنه وضع كل شيء في موضعه. انتهى.
وقيل: في هذا الوجه، وهو عود الضمير في خلقه على الله، يكون بدلاً من كل شيء، بدل شيء من شيء، وهما لعين واحدة. ومعنى {أحسن}: حسن، لأنه ما من شيء خلقه إلا وهو مرتب على ما تقضيه الحكمة. فالمخلوقات كلها حسنة، وإن تفاوتت في الحسن، وحسنها من جهة المقصد الذي أريد بها. ولهذا قال ابن عباس: ليست القردة بحسنة، ولكنها متقنة محكمة. وعلى قراءة من سكن لام خلقه، قال مجاهد: أعطى كل جنس شكله، والمعنى: خلق كل شيء على شكله الذي خصه به. وقال الفراء: ألهم كل شيء خلقه فيما يحتاجون إليه، كأنه أعلمهم ذلك، فيكون كقوله: {أعطى كل شيء خلقه} وقرأ الجمهور: بدأ بالهمز؛ والزهري: بالألف بدلاً من الهمزة، وليس بقياس أن يقول في هدأ: هدا، بإبدال الهمزة ألفاً، بل قياس هذه الهمزة التسهيل بين بين؛ على أن الأخفش حكى في قرأت: قريت ونظائره. وقيل: وهي لغية؛ والأنصار تقول في بدأ: بدى، بكسر عين الكلمة وياء بعدها، وهي لغة لطي. يقولون في فعل هذا نحو بقى: بقأ، فاحتمل أن تكون قراءة الزهري على هذه اللغة أصله بدى، ثم صار بدأ، أو على لغة الأنصار. وقال ابن رواحة:
باسم الإله وبه بدينا *** ولو عبدنا غيره شقينا
{وبدأ خلق الإنسان}: هو آدم، عليه الصلاة والسلام. {ثم جعل نسله}: أي ذريته. نسل من الشيء: انفصل منه. {ثم سواه}: قومه وأضاف الروح إلى ذاته دلالة على أنه خلق عجيب، لا يعلم حقيقته إلا هو، وهي إضافة ملك إلى مالك وخلق إلى خالق تعالى. {وجعل لكم}: التفات، إذ هو خروج من مفرد غائب إلى جمع مخاطب، وتعديد للنعم، وهي شاملة لآدم؛ كما أن التسوية ونفخ الروح شامل له ولذريته. والظاهر أن {وقالوا}، الضمير لجمع، وقيل: القائل أبيّ بن خلف، وأسند إلى الجمع لرضاهم به، والناصب للظرف محذوف يدل عليه {أئنا} وما بعدها تقديره انبعث. {أئذا ضللنا}، ومن قرأ إذا بغير استفهام، فجواب إذا محذوف، أي: إذا ضللنا في الأرض نبعث، ويكون إخباراً منهم على طريق الاستهزاء. وكذلك من قرأ: إنا على الخبر، أكدوا ذلك الاستهزاء باستهزاء آخر. وقرأ الجمهور: بفتح اللام، والمضارع يضل بكسر عين الكلمة، وهي اللغة الشهيرة الفصحية، وهي لغة نجد. قال مجاهد: هلكنا، وكل شيء غلب عليه غيره حتى تلف وخفي فقد هلك، وأصله من: ضل الماء في اللبن، إذا ذهب.
وقال قطرب: ضللنا: غبنا في الأرض، وأنشد قول النابغة الذبياني:
فآب مضلوه بعين جلية *** وغودر بالجولان حزم ونائل
وقرأ يحيى بن يعمر، وابن محيصن، وأبو رجاء، وطلحة، وابن وثاب: بكسر اللام، والمضارع بفتحها، وهي لغة أبي العالية. وقرأ أبو حيوة: ضللنا، بالضاد المنقوطة وضمها وكسر اللام مشددة، ورويت عن علي. وقرأ علي، وابن عباس، والحسن، والأعمش، وأبان ين سعيد بن العاص: صللنا، بالصاد المهملة وفتح اللام، ومعناه: أنتنا. وعن الحسن: صللنا، بكسر اللام، يقال: صل يصل، بفتح العين في الماضي وكسرها في المضارع؛ وصل يصل: بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع؛ وأصل يصل، بالهمزة على وزن أفعل. قال الشاعر:
تلجلج مضغة فيها أبيض *** أصلت فهي تحت الكشح داء
وقال الفراء: معناه صرنا بين الصلة، وهي الأرض اليابسة الصلبة. وقال النحاس: لا نعرف في اللغة صللنا، ولكن يقال: أصل اللحم وصل، وأخم وخم إذ أنتن، وحكاه غيره. {بل هم بلقاء ربهم كافرون}: جاحدون بلقاء الله والصيرورة إلى جزائه. ثم أمره تعالى أن يخبرهم بجملة الحال غير مفصلة، من قبض أرواحهم، ثم عودهم إلى جزاء ربهم بالبعث. و{ملك الموت}: اسمه عزرائيل، ومعناه عبد الله. وقرأ الجمهور: {ترجعون}، مبنياً للمفعول؛ وزيد بن علي: مبنياً للفاعل.
{ولو ترى}: الظاهر أنه خطاب للرسول، وقيل: له ولأمته، أي: يا محمد منكري البعث يوم القيامة لرأيت العجب. وقال أبو العباس: المعنى يا محمد قل للمجرم. {ولو ترى}: رأى أن الجملة معطوفة على {يتوفاكم}، داخلة تحت {قل}، فلذلك لم يجعله خطاباً للرسول. والظاهر أن لو هنا لم تشرب معنى التمني، بل هي التي لما كان سيقع لوقوع غيره، والجواب محذوف، أي لرأيت أسوأ حال يرى. ولو تعليق في الماضي، وإذ ظرف للماضي، فلتحقق الأخبار ووقوعه قطعاً أتى بهما تنزيلاً منزلة الماضي. وقال الزمخشري: يجوز أن يكون خطاباً لرسول الله، وفيه وجهان: أحدهما: أن يراد به التمني، كأن قيل: وليتك ترى، والتمني له، كما كان الترجي له في: {لعلهم يهتدون}، لأنه تجرع منهم الغصص ومن عداوتهم وضرارهم، فجعل الله له، تمنى أن يراهم على تلك الصفة الفظيعة من الحياء والخزي والغم ليشمت بهم، وأن تكون لو امتناعية، وقد حذف جوابها، وهو: لرأيت أمراً فظيعاً. ويجوز أن يخاطب به كل أحد، كما تقول: فلان لئيم إن أكرمته أهانك، وإن أحسنت إليه أساء إليك، فلا يريد به مخاطباً بعينه، وكأنك قلت: إن أكرم وإن أحسن إليه. انتهى. والتمني بلو في هذا الموضع بعيد، وتسمية لو امتناعية ليس بجيد، بل العبارة الصحيحة لو لما كان سيقع لوقوع غيره، وهي عبارة سيبويه، وقوله قد حذف جوابها وتقديره: وليتك ترى ما يدل على أنها كانت إذا للتمني لا جواب لها، والصحيح أنها إذا أشربت معنى التمني، يكون لها جواب كحالها إذا لم تشربه.
قال الشاعر:
فلو نبش المقابر عن كليب *** فيخبر بالذنائب أي زير
بيوم الشعشمين لقر عينا *** وكيف لقاء من تحت القبور
وقال الزمخشري: وقد تجيء لو في معنى التمني، كقولك: لو تأتيني فتحدثني، كما تقول: ليتك تأتيني فتحدثني. فقال ابن مالك: إن أراد به الحذف، أي وددت لو تأتيني فصحيح، وإن أراد أنها موضوعة للتمني فغير صحيح، لأنها لو كانت موضوعة له، ما جاز أن يجمع بينها وبين فعل التمني. لا يقال: تمنيت ليتك تفعل، ويجوز: تمنيت لو تقوم. وكذلك امتنع الجمع بين لعل والترجي، وبين إلا واستثنى. انتهى. {ناكسوا رؤوسهم}: مطرقوها، من الذل والحزن والهم والغم والذم. وقرأ زيد بن علي: نكسوا رؤوسهم، فعلاً ماضياً ومفعولاً؛ والجمهور: اسم فاعل مضاف. {عند ربهم}: أي عند مجازاته، وهو مكان شدة الخجل، لأن المربوب إذا أساء ووقف بين يدي ربه كان في غاية الخجل. {ربنا}: على إضمار يقولون، وقدره الزمخشري: يستغيثون بقولهم: {ربنا أبصرنا} ما كنا نكذب؛ {وسمعنا}: ما كنا ننكر؛ وأبصرنا صدق وعدك ووعيدك، وسمعنا تصديق رسلك، وكنا عمياً وصماً فأبصرنا وسمعنا، فارجعنا إلى الدنيا. {إنا موقنون}: أي بالبعث. قاله النقاش؛ وقيل: مصدقون بالذي قال الرسول، قاله يحيى بن سلام. وموقنون: مشعر بالالتباس في الحال، أي حين أبصروا وسمعوا. وقيل: موقنون: زالت الآن عنا الشكوك، ولم نكن في الدنيا نتدبر، وكنا كمن لا يبصر ولا يسمع. وقيل: لك الحجة، ربنا قد أبصرنا رسلك وعجائب في الدنيا، وسمعنا كلامهم فلا حجة لنا، وهذا اعتراف منهم.


{لآتينا كل نفس هداها}: أي اخترعنا الإيمان فيها، كقوله: {أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً} و{لجمعهم على الهدى} و{لجعل الناس أمة واحدة} وقال الزمخشري: على طريق الإلجاء والقسر، ولكنا بنينا الأمر على الاختيار دون الاضطرار، فاستحبوا العمى على الهدى، فحقت كلمة العذاب على أهل العمى دون أهل البصر. ألا ترى إلي ما عقبه به من قوله: {فذوقوا بما نسيتم}؟ فجعل ذوق العذاب نتيجة فعلهم من نسيان العاقبة وقلة الفكر فيها، وترك الاستعداد لها. والمراد بالنسيان: خلاف التذكر، يعني: أن الانهماك في الشهوات أنهككم وألهاكم عن تذكر العاقبة، وسلط عليكم نسيانها. ثم قال: {إنا نسيناكم} على المقابلة: أي جازيناكم جزاء نسيانكم. وقيل: هو بمعنى الترك، قاله ابن عباس وغيره، أي تركتم الفكر في العاقبة، فتركناكم من الرحمة. انتهى. وقوله: على طريق الإلجاء والقسر، هو قول المعتزلة. وقالت الإمامية: يجوز أن يريد هداها إلى طريق الجنة في الآخرة، ولم يعاقب أحداً، لكن حق القول منه أن يملأ جهنم، فلا يجب على الله هداية الكل إليها. قالوا: بل الواجب هداية المعصومين؛ فأما من له ذنب، فجائز هدايته إلى النار جزاء على أفعاله، وفي جواز ذلك منع لقطعهم على أن المراد هداها إلى الإيمان. انتهى. و{هذا}: صفة ليومكم، ومفعول {فذوقوا} محذوف، أو مفعول فذوقوا هذا العذاب بسبب نسيانكم {لقاء يومكم هذا}، وهو ما أنتم فيه من نكس الرؤوس والخزي والغم؛ أو ذوقوا العذاب المخلد في جهنم. وفي استئناف قوله: {إنا نسيناكم}، وبناء الفعل على إن واسمها تشديد في الانتقام منهم.
{وإنما يؤمن بآياتنا}: أثنى تعالى على المؤمنين في وصفهم بالصفة الحسنى، من سجودهم عند التذكير، وتسبيحهم وعدم استكبارهم؛ بخلاف ما يصنع الكفرة من الإعراض عن التذكير، وقول الهجر، وإظهار التكبر؛ وهذه السجدة من عزائم سجود القرآن. وقال ابن عباس: السجود هنا بمعنى الركوع. وروي عن ابن جريج: المسجد مكان الركوع، يقصد من هذا ويلزم على هذا أن تكون الآية مدنية ومن مذهب ابن عباس أن القارئ للسجدة يركع، واستدل بقوله: {وخرّ راكعاً وأناب} {تتجافى جنوبهم}: أي ترتفع وتتنحى، يقال: جفا الرجل الموضع: تركه. قال عبد الله بن رواحة:
نبي تجافى جنبه عن فراشه *** إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
وقال الزجاج والرماني: التجافي: التنحي إلى جهة فوق. والمضاجع: أماكن الاتكاء للنوم، الواحد مضجع، أي هم منتبهون لا يعرفون نوماً. وقال الجمهور: المراد بهذا التجافي صلاة النوافل بالليل، وهو قول الأوزاعي ومالك والحسن البصري وأبي العالية وغيرهم. وفي الحديث، ذكر قيام الليل، ثم استشهد بالآية، يعني الرسول. وقال أبو الدرداء، وقتادة، والضحاك: تجافي الجنب: هو أن يصلي العشاء والصبح في جماعة.
وقال الحسن: هو التهجد؛ وقال أيضاً: هو وعطاء: هو العتمة. وفي الترمذي، عن أنس: نزلت في انتظار الصلاة التي تدعى العتمة. وقال قتادة، وعكرمة: التنفل ما بين المغرب والعشاء، {يدعون}: حال، أو مستأنف خوفاً وطمعاً، مفعول من أجله، أو مصدران في موضع الحال. والظاهر أن الدعاء هو: الابتهال إلى الله، وقيل: الصلاة.
وقرأ الجمهور: {ما أخفي لهم}، فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول؛ وحمزة، والأعمش، ويعقوب: بسكون الياء، فعلاً مضارعاً للمتكلم؛ وابن مسعود: وما نخفي، بنون العظمة؛ والأعمش أيضاً: أخفيت. وقرأ محمد بن كعب: ما أخفي، فعلاً ماضياً مبنياً للفاعل. وقرأ الجمهور: {من قرة}، على الإفراد. وقرأ عبد الله، وأبو الدرداء، وأبو هريرة، وعوف العقيلي: من قرات، على الجمع بالألف والتاء، وهي رواية عن أبي جعفر والأعمش؛ و{ما أخفي} يحتمل أن تكون موصولة، وأن تكون استفهامية، فيكون {تعلم} متعلقة. والجملة في موضع المفعول، إن كان {تعلم} مما عدى لواحد؛ وفي موضع المفعولين إن كانت تتعدى لاثنين، وتقدم تفسيره في {قرة عين} في الفرقان. وفي الحديث، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، اقرأوا إن شئتم: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين}» وقال ابن مسعود: في التوراة مكتوب على الله للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لا عين رأت ولا أذن سمعت إلى آخره. {ولا تعلم نفس}: نكرة في سياق النفي، فيعم جميع الأنفس مما ادّخرا لله تعالى لأولئك، وأخفاه من جميع خلائقه مما تقر به أعينهم، لا يعلمه إلا هو، وهذه عدة عظيمة لا تبلغ الأفهام كنهها، بل ولا تفاصيلها. وقال الحسن: أخفوا اليوم أعمالاً في الدنيا، فأخفى الله لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت. {جزاء بما كانوا يعملون}، وهو تعالى الموفق للعمل الصالح. وقال الزمخشري: فحسم أطماع المتمنين. انتهى، وهذه نزغة اعتزالية.
{أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً}، قال ابن عباس وعطاء: نزلت في علي والوليد بن عقبة. تلاحياً، فقال له الوليد: أنا أذلق منك لساناً، وأحدّ سناناً، وأرد للكتيبة. فقال له علي: اسكت، فإنك فاسق. قال الزمخشري: فنزلت عامة للمؤمنين والفاسقين، فتناولتهما وكل من في مثل حالهما. وقال الزجاج، والنحاس: نزلت في علي وعقبة بن أبي معيط. فعلى هذا تكون الآية مكية، لأن عقبة لم يكن بالمدنية، وإنما قتل بطريق مكة، منصرف بدر. والجمع في {لا يستوون}، والتقسيم بعده، حمل على معنى من. وقيل: {لا يستوون} لاثنين، وهو المؤمن والفاسق، والتثنية جمع. وقال الزجاج: ونزول الآية في علي والوليد، ثم بين انتفاء الاستواء بمقر كل واحد منهما بالإفراد. والجمهور: {جنات} بالجمع. وقيل: سميت بذلك لما روي عن ابن عباس، قال: يأوي إليها أرواح الشهداء.
وقيل: هي عن يمين العرش. وقرأ الجمهور: {نُزُلاً} بضم الزاي؛ وأبو حيوة: بإسكانها. والنزل: عطاء النازل، ثم صار عاماً فيما يعد للضيف. {وأما الذين فسقوا}: أي بالكفر، {فمأواهم النار}. قال الزمخشري: ويجوز أن يراد: فجنة مأواهم النار، أي النار لهم مكان جنة المأوى للمؤمنين، كقوله: {فبشرهم بعذاب أليم} انتهى وهذا فيه بعد. وإنما يذهب إلى مثل {فبشرهم} إذا كان مصرحاً به فيقول: قام مقام التبشير العذاب، وكذلك قام مقام التحية ضرب وجيع. أما أن تضمر شيئاً لكلام مستغنى عنه جار على أحسن وجوه الفصاحة حتى يحمل الكلام على إضمار، فليس بجيد.
و {العذاب الأدنى}، قال أبيّ، وابن عباس، والضحاك، وابن زيد: مصائب الدنيا في الأنفس والأموال. وقال ابن مسعود، والحسن بن علي: هو القتل بالسيف، نحو يوم بدر. وقال مجاهد: القتل والجوع لقريش، وعنه: إنه عذاب القبر. وقال النخعي، ومقاتل: هو السنون التي أجاعهم الله فيها. وقال ابن عباس أيضاً: هو الحدود. وقال أبيّ أيضاً: هو البطشة واللزام والدخان. و{العذاب الأكبر}، قال ابن عطية: لا خلاف أنه عذاب الآخرة. وفي التحرير وأكثرهم على أن العذاب الأكبر عذاب يوم القيامة في النار. وقيل: هو القتل والسبي والأسر. وعن جعفر بن محمد: أنه خروج المهدي بالسيف. {لعلهم يرجعون}، قال ابن مسعود: لعل من بقي منهم يتوب. وقال أبو العالية: لعلهم يتوبون. وقال مقاتل: يرجعون عن الكفر إلى الإيمان. وقيل لعلهم يريدون الرجوع ويطلبونه لقوله: {فارجعنا نعمل صالحاً}. وسميت إرادة الرجوع رجوعاً، كما سميت إرادة القيام قياماً في قوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} انتهى. ويقابل الأدنى: الأبعد، والأكبر: الأصغر. لكن الأدنى يتضمن الأصغر، لأنه منقض بموت المعذب والتخويف، إنما يصلح بما هو قريب، وهو العذاب العاجل. والأكبر يتضمن الأبعد، لأنه واقع في الآخرة، والتخويف بالبعيد إنما يصلح بذكر عظمه وشدته، فحصلت المقابلة من حيث التضمن، وخرج في كل منهما بما هو آكد في التخويف.
وقال الزمخشري: فإن قلت: من أين صح تفسير الرجوع بالتوبة؟ ولعل من الله إرادة، وإذا أراد الله شيئاً كان ولم يمتنع، وتوبتهم مما لا يكون، ألا ترى أنها لو كانت مما يكون لم يكونوا ذائقين العذاب الأكبر؟ قلت: إرادة الله تتعلق بأفعاله وأفعال عباده، فإذا أراد شيئاً من أفعاله كان، ولم يمنع للاقتدار وخلوص الداعي؛ وأما أفعال عباده، فإما أن يريدها وهم مختارون لها ومضطرون إليها بقسره وإلجائه، فإن أرادها وقدرها فحكمها حكم أفعاله، وإن أرادها على أن يختاروها وهو عالم أنهم لا يختارونها لم يقدح ذلك في اقتداره، كما لا يقدح في اقتدراك إرادتك أن يختار عبدك طاعتك، وهو لا يختارها، لأن اختياره لا يتعلق بقدرتك، فلم يكن بعده دالاً على عجزك.
انتهى، وهو على مذهب المعتزلة، وقد ردّ عليهم أهل السنة، وذلك مقرر في علم الكلام. {ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها}، بخلاف المؤمنين، إذا ذكروا بها خروا سجداً. {ثم أعرض عنها}، قال الزمخشري: ثم للاستبعاد، والمعنى: أن الإعراض عن مثل آيات الله في وضوحها وإنارتها وإرشادها إلى سواء السبيل، والفوز بالسعادة العظمى بعد التذكير بها مستبعد في العقل؛ والعادة، كما تقول لصاحبك: وجدت مثل تلك الفرصة، ثم لم تنتهزها استبعاداً لتركه الانتهاز، ومنه ثم في بيت الشاعر:
ولا يكشف الغماء إلا ابن حرة *** يرى غمرات الموت ثم يزورها
استبعد أن يزور غمرات الموت بعد أن رآها واستيقنها واطلع على شدتها. انتهى. {من المجرمين}: عام في كل من أجرم، فيندرج فيه بجهة الأولوية من كان أظلم ظالم؛ والإجرام هنا: هو: الكفر. وقال يزيد بن رفيع: هي في أهل القدر، وقرأ: {إن المجرمين} إلى قوله: {بقدر} وفي الحديث: «ثلاث من كن فيه فقد أجرم: من عقد لواء في غير حق، ومن عق والديه، ومن نصر ظالماً».


لما قرر الأصول الثلاثة: الرسالة، وبدء الخلق، والمعاد، عاد إلى الأصل الذي بدأ به، وهو الرسالة التي ليست بدعاً في الرسالة، إذ قد سبق قبلك رسل. وذكر موسى عليه السلام، لقرب زمانه، وإلزاماً لمن كان على دينه؛ ولم يذكر عيسى، لأن معظم شريعته مستفاد من التوراة، ولأن أتباع موسى لا يوافقون على نبوته، وأتباع عيسى متفقون على نبوة موسى.
و {الكتاب}: التوراة. وقرأ الحسن: في مرية، بضم الميم، والظاهر أن الضمير عائد على موسى، مضافاً إليه على طريق المفعول، والفاعل محذوف ضمير الرسول، أي من لقائك موسى، أي في ليلة الإسراء، أي شاهدته حقيقة، وهو النبي الذي أوتي التوراة، وقد وصفه الرسول فقال: «آدم طوال جعد، كأنه من رجال شنوءة حين رآه ليلة الإسراء»، قاله أبو العالية وقتادة وجماعة من السلف. وقال المبرد: حين امتحن الزجاج بهذه المسألة. وقيل: عائد على الكتاب، فإما مضاف إليه على طريق الفاعل والمفعول محذوف، أي من لقاء الكتاب موسى ووصوله إليه، وإما بالعكس، أي من لقاء موسى الكتاب وتلقيه. وقيل: يعود على الكتاب على تقدير مضمر، أي من لقاء مثله، أي: إنا آتيناك مثل ما آتينا موسى، ولقناك بمثل ما لقن من الوحي، فلا تك في شك من أنك لقنت مثله ولقيت نظيره، ونحوه من لقائه قوله: {وإنك لتُلَقّى القرآن}. وقال الحسن: يعود على ما تضمنه القول من الشدة والمحنة التي لقي موسى، وذلك إن إخباره بأنه آتى موسى الكتاب كأنه قال: ولقد آتينا موسى هذا العبء الذي أنت بسبيله، فلا تمتر أنك تلقى ما لقي هو من المحنة بالناس. انتهى، وهذا قول بعيد. وأبعد من هذا، من جعله عائداً على ملك الموت الذي تقدم ذكره، والجملة اعتراضية. وقيل: عائد على الرجوع إلى الآخرة، وفي الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: {ثم إلى ربكم ترجعون}.
{فلا تكن في مرية لقائه}: أي من لقاء البعث، وهذه أنقال كان ينبغي أن ينزه كتابنا عن نقلها، ولكن نقلها المفسرون، فاتبعناهم. والضمير في {وجعلناه} لموسى، وهو قول قتادة. وقيل: للكتاب، جعله هادياً من الضلالة؛ وخص بني إسرائيل بالذكر، لأنه لم يتعبد بما فيها ولد إسماعيل. {وجعلنا منهم}: أي من بني إسرائيل، {أئمة}: قادة يقتدى بهم. وقرأ الجمهور: {لما صبروا}، بفتح اللام وشد الميم. وعبدالله وطلحة، والأعمش، وحمزة، والكسائي، ورويس: بكسر اللام وتخفيف الميم. {وكانوا}: يحتمل أن يكون معطوفاً على {صبروا}، فيكون داخلاً في التعليق. ويحتمل أن يكون عطفاً على {وجعلنا منهم}. وقرأ عبدالله أيضاً: بما صبروا، بباء الجر، والضمير في منهم ظاهره يعود على بني إسرائيل. والفصل: يوم القيامة يعم الخلق كلهم.
{أو لم يهد لهم}: تقدم الكلام على نحو هذه الآية إعراباً وقراءة وتفسيراً في طه، إلا أن هنا: {من قبلِهم} و{يسمعون}، وهناك: {قبلَهم}، و{لأولي النهى} ويسمعون، والنهي من الفواصل.
{أو لم يروا أنا نسوق الماء}: أقام تعالى الحجة على الكفرة بالأمم السالفة الذين كفروا فأهلكوا، ثم أقامها عليهم بإظهار قدرته وتنبيههم على البعث، وتقدّم تفسير {الجزر} في الكهف، وكل أرض جزر داخلة في هذا، فلا تخصيص لها بمكان معين. وقال ابن عباس: هي أرض أبين من اليمن، وهي أرض تشرب بسيول لا تمطر. وقرئ: الجرز، بسكون الراء. {فنخرج به}: أي بالماء، وخص الزرع بالذكر، وإن كان يخرج الله به أنواعاً كثيرة من الفواكه والبقول والعشب المنتفع به في الطب وغيره، تشريفاً للزرع، ولأنه أعظم ما يقصد من النبات، وأوقع الزرع موقع النبات. وقدمت الأنعام، لأن ما ينبت يأكله الأنعام أول فأول، من قبل أن يأكل بنو آدم الحب. ألا ترى أن القصيل، وهو شعير يزرع، تأكله الأنعام قبل أن يسبل؛ والبرسيم والفصفصة وأمثال ذلك تبادره الأنعام بالأكل قبل أن يأكل بنو آدم حب الزرع، أو لأنه غذاء الدواب، والإنسان قد يتغذى بغيره من حيوان وغيره، أو بدأ بالأدنى ثم ترقى إلى الأشرف، وهم بنو آدم. وقرأ أبو حيوة، وأبو بكر في رواية: يأكل، بالياء من أسفل. وقرأ الجمهور: {يبصرون}، بياء الغيبة؛ وابن مسعود: بتاء الخطاب. وجاءت الفاصلة: {أفلا يبصرون}، لأن ما سبق مرئي، وفي الآية قبله مسموع، فناسب: {أفلا يسمعون}. ثم أخبر تعالى عن الكفرة، باستعجال فصل القضاء بينهم وبين الرسول على معنى الهزء والتكذيب. و{الفتح}: الحكم، قاله الجمهور، وهو الذي يترتب عليه قوله: {قل يوم الفتح} الخ، ويضعف قول الحسن ومجاهد: فتح مكة، لعدم مطابقته لما بعده، لأن من آمن يوم فتح مكة، إيمانه ينفعه، وكذا قول من قال: يوم بدر. {ولا هم ينظرون}: أي لا يؤخرون عن العذاب. ولما عرف غرضهم في سؤالهم على سبيل الهزء، وقيل لهم: لا تستعجلوا به ولا تستهزؤا، فكأن قد حصلتم في ذلك اليوم وآمنتم، فلم ينفعكم الإيمان، واستنظرتم في حلول العذاب، فلم تنظروا، فيوم منصوب بلا ينفع. ثم أمر بالإعراض عنهم وانتظار النصر عليهم والظفر بهم. {إنهم منتظرون} للغلبة عليكم لقوله: {فتربصوا إنا معكم متربصون} وقيل: إنهم منتظرون العذاب، أي هذا حكمهم، وإن كانوا لا يشعرون. وقرأ اليماني: منتظرون، بفتح الظاء، اسم مفعول؛ والجمهور: بكسرها، اسم فاعل، أي منتظر هلاكهم، فإنهم أحقاء أن ينتظر هلاكهم، يعني: إنهم هالكون لا محالة، أو: وانتظر ذلك، فإن الملائكة في السماء ينتظرونه.